الحلقه الثانيه : الثائر والمبشر والرسول الجديد
في "الجمهوريّة"، 4 ديسمبر 74، دراسة نقدية لعليّ قنديل، تتصدّرها مقدمة قصيرة للشّاعر الكبير محسن الخيّاط، بعنوان "أدب شاب.. ونقّاد شباب": "أسعد كثيرًا عندما أحسّ بأن حركة نقدية تنمو من خلال الأدباء الشبّان أنفسهم، هذه الحركة البكر التي تتضح معالمها يومًا بعد يوم، وتتخلق بأصالة في قلب الحركة الأدبية خارج القاهرة، بعيدًا عما ران على حركة النّقد بالقاهرة من صدأ وما اعتراها من شيخوخة، وما أصاب بعض جوانبها بالهوى والبعد عن الموضوعيّة، قدّم هذا الباب عددًا من الأدباء كتابًا وشعراء ونقّادًا، ويسعده اليوم أن يقدّم أديبًا شابًا يمارس النّقد بوعي الشّباب وموضوعيّته، والناقد الشّاب هو عليّ قنديل في مقالته النقديّة عن الشّاعر عبد الدايم الشّاذليّ".
"الجمهوريّة" 4 ديسمبر 74
رأي "عليّ" في مقاله أن "الروّاد الأوائل في شعر العاميّة لعبوا في الاتجاه به إلى منطقة التفجيرات الشّعريّة، وأصبح على الأجيال التالية أن تعمّقها وتضيئها من شتّى الزوايا. إن القول بأن شعر العاميّة لا يصلح إلا كفن دعائيّ ولا ينمو إلا بين الأميّين وأنصاف المثقّفين قول متعسّف، يقف ضده الشّاعر الذي نقدّمه الآن". ستتواتر مثل هذه المقولة "التفجيرات الشّعريّة" وغيرها في كامل البناء النقديّ لتجربة شعر السّبعينات بعد ذلك، سوف يوسّع الرّفاق نظريّات "عليّ" حول الكتابة الجديدة وأهدافها، بعد أن ينجز كل واحد من هؤلاء الشّعراء الشبّان، المتن الرئيسيّ في مشروعه الشّعريّ، ويستوي على قدميه ناقدًا، لكن "عليّا" سيظل في صدورهم وعقولهم على الدوام، ذكرى متجدّدة وملهمة، لعله كان يدفع بكلّ واحد منهم، من حيث لا يدري، إلى أن يماثله، بحسب ماجد يوسف: "شكّل غياب عليّ قنديل صدمة كبيرة، ليس على المستوى الشخصيّ فقط، بل على مستوى الجيل الذي شعر لأوّل مرّة أن له ظهرًا نقديًّا، خصوصًا أن البعد النقديّ لنا لم يستو على عوده إلا بعد سنوات، في هذه المرحلة الباكرة لم تكن أبعادنا النقديّة قد تبلوت في مقولات تخصنا، وليست مقولات مستعارة من الكبار الذين تعهّدوا كتابتنا احتفاءً وتنظيرًا، أو مستعارة من ثقافة الكتب. لم تكن المكوّنات قد هُضمت بعد في قوامٍ خاص يعطي رفعت سلّام مشروعيته كناقد، ويعطي حلمي سالم مشروعيّته كناقد، وكذا جمال وأمجد وكلّ المجموعة، بالإضافة إلى المشروعيّة الشّعريّة. لذلك كان إحساسنا بالفقد مزدوجًا، على المستوى الشخصيّ لما كان يمثله هذا الإنسان الرقيق الراقي الجميل، وهذا الناقد النابه، الذي ينتمي إلينا ويصوغ المقولات النقديّة الجديدة المدافعة عن اتجاهنا".
وكان ماجد يوسف الشّاب ترجم هذا المعني شعريًا في قصيدة له بعنوان "النبوءة"- ديوان "ست الحزن والجمال" 1980: "خرس الحصان/ لحظة ما كان لازم يقول/ خرج الحصان/ مع إنه كان/ بدأ- الحقيقة- في الدخول"، لكن حديث "ماجد" الآن عن "الظّهر النقديّ" الذي شكّله عليّ قنديل لهؤلاء الشّعراء اليافعين قبل أن ينخطف، قد يحتاج أيضًا إلى دليل من الأرشيف:
تحت عنوان "القشّ والوردة"، مجلّة "الشّباب" 8 إبريل 75، يكتب "عليّ" دفاعه "الفروسيّ الذي تفرضه طبيعة وفعاليّة المواجهة" مع الحاضر الشّعريّ: "رشّح الأستاذ صالح جودت بعض الشّعراء ممن تترد أسماؤهم على صفحات "الزّهور" لخلافة الشّعر: يس الفيل، الحسّاني عبد الله، أحمد زرزور، ودعنا من أسئلة كثيرة يثيرها هذا الخبر، لنقل كلمة تقف بالمقابل وتضيء التصوّر الآخر، ومخطئ من يتصوّر أنّها انشغال بالأستاذ صالح وأخباره. إن حسًّا تاريخيّا ما يدفعنا لإثبات هذه الكلمة، فمن الحماقة أن ندع هذا الخبر ونصمت مدّعين التعالي عليه، وعاصمنا في ذلك أنها كلمة نقولها مرة واحدة ونعود لأعمالنا".
عليّ قائدًا لفصيله الشّعريّ: نحن نسرع الخطى للأمام بلهفة ناريّة للمغامرة والاكتشاف
هذه البداية التي لا تبشّر بخير وتنذر بمعركة محتملة، دفعت سيّد حجاب، مشرف باب الثّقافة، إلى التحوّط، بأن كتب في أعلي الصفحة عبارة "رأيّ خاص يعبّر عن صاحبه"، وفي الحقيقة فإن هذا الرأي يعبر أيضًا عن "جمعيّة الشّعراء الثوّار" التي أسّسها هو نفسه في مقر المجلّة، إن علىّ قنديل يتحدث من البداية للنّهاية بصيغة الجمع: "حسن طلب، حلمي سالم، أمجد ريّان، أحمد الحوتي، محمد حسن، وعليّ قنديل، أمثلة قليلة وثمّة الكثير، فتذكروها لأن معظمها لا يحظى بالشّهرة الواسعة، فقد رفضوا الانضمام لـ"رابطة الزّهور" بسبب أساسيّ قبل أيّ سبب، هو أنها بهبوطها الثقافيّ والإبداعيّ لا تحتمل قدراتهم. إنهم امتداد تفجيريّ ازدهاريّ لحقيقة الإبداع العربيّ الأول: امرئ القيس، أبو تمّام، والمعريّ، وبهذا فهم يؤلّفون موجة ذات فيض في شلّال الشّعر الجديد من بغداد إلى الجزائر، أما "الخلفاء" فهم في الأغلب تكرار فاقد المعنى والمبرّر لفترة "إن ذنبي والله ذنب كبير".
فهل كلّف أحد "عليًّا" بالتصدّي لصالح جودت وخلفائه، والتبشير بالثوّرة الشّعريّة الجديدة، وتحديد فرسانها بالاسم؟ إنه يؤكد في البداية أن إثبات دفاعه يأتي انطلاقًا من حسٍّ تاريخيٍّ ما، ربما هو الذي دفعه للإشارة إلى البعد الإقليميّ للثّورة الشّعريّة الجديدة من بغداد إلى الجزائر؟ لكن ما هي حدود هذا التصوّر الجديد للكتابة؟ إن الحسّ التاريخيّ السّليم يُملي عليه أن يجيب على السّؤال: ما البديل؟ ويتساءل "عليّ": ماذا في تركة الخلفاء غير شريط من التأوّهات الجنسيّة والتنكيت الممجوج، وشريط آخر من التصوّر "النثريّ" الباهت للألم والمعاناة وتلبّس قمصان الأبطال؟ وأخيرًا فالمعاني كلها عندهم مناسبات تصلح للنظم والقريض. كل المعاني قشّ. أما نحن فلم نستلم من أحد تركة، ولا نعرف إمارة، وثروتنا مكنوزة في الغد، لذلك فبينما ينظر الخلفاء للخلف في انطفاء، نحن نسرع الخطى للأمام بلهفة ناريّة للمغامرة والاكتشاف، ولا نعرف إلا مناسبة واحدة: العالم، فالوطن عندنا شجرة تنمو، والحبّ بحر يأتي، والسماء شراع يغري بالارتياد، ونسمي هذا كله الوردة".
هذه النبرة العالية، وهذا التحدّي الواضح للسّياق الشّعريّ شبه المعترف به رسميًّا، هو ما سيتوسع فيه الرّفاق بعد ذلك ليطول أسماء أخرى من نوعيّة أحمد سويلم وفتحي سعيد وأبو سنّة وبدر توفيق، من الجيل التالي لروّاد شعر التفعيلة، كما سيمتد مرة أخرى ليلتهم صلاح عبد الصّبور وأحمد عبد المعطي حجازي وحتى أمل دنقل، "آخر الشّعراء الجاهليّين"- بتعبير أحدهم. لكن هذه الجَرأة وقتها كانت بحاجة إلى تبرير على الأقل: "الرائد وخلفاؤه لم يقدّموا للآن قصيدة واحدة فيها جرأة اقتحام اللّغة أو موقف من البناء التشكيليّ، أو بحث عن سر الشّعر، عن جذوته، وذلك لأنهم تعلّموا "صنعة" الانقضاض عليه وهو بارد، رماد. تخيفهم سخونة الشّعر، ويقيّدهم مفهوم "الخريدة". أما نحن- والعالم بنا وفينا ديناميّ لا يثبت- فقد أعطينا الشّعر ذاتنا كلّها، للشّعر السّيّار، الطفل النَزِق، فانظروا إلى أين يجري بنا لعلّكم تدركون".
"الشّباب" 8 إبريل 75
بإمكاننا أن نتصوّر وقع هذه السّطور على مجتمع "الشّباب" الشّعريّ في منتصف السّبعينات، والذين تجاوز معظمهم العشرين عامًا بالكاد. إن "عليّا"، رفيقهم، يبشّر بـ"عهد جديد من عناق اللّفظة وانفجار بحيرات الموسيقى ورياحات النّزف: نزف الحياة والكينونة والوجود"، ويلوّح في الأفق بـ"بارقة أولى من كهرباء رائعة ستأتي كالعبقريّ الجميل"، ويهتف: "افتحوا الشرفات وأطلّوا، إنها تسري في كل جسد الإبداعيّة المصريّة، وتفجّر من شتّى أغصانها ماء الولادات الجديدة".
كان هاجس عليّ قنديل في هذه اللّحظة هو الصّدام مع تكنيك الكتابة السائدة، يوضح جمال القصّاص: "قد تقول إن مواجهة السّلطة شكل من أشكال الصّدام. لكن الصّدام الأساس في ذلك الوقت كان مع النّص الشّعريّ في المقام الأوّل. هذا هو السّلطة التي كان يجب أن نصطدم معها أولاً، ثم تأتي كافة السّلطات الأخرى في المجتمع. لأننا لو لم ننجح في المعركة مع هذه السّلطة، فسوف نفشل في مواجهة باقي السّلطات. أظن أن عليًّا كان واعيًا بذلك بفطرته، لكنه رسّخ هذه الفطرة بقراءات نهمة ومتنوعة في الشعر والنقد والفلسلفة والتّراث".
كان الشّاعر الشّاب، حسن طلب، ابن طهطا، عائدًا للتوّ من الحرب. ستّ سنوات فوق الرّمال البعيدة، في معمعان الاشتباكات، ضمن أفراد الكتيبة 820 مدفعيّة ميدان، كانت كفيلة بأن تنسيه الحياة المدنيّة برمّتها. هو الآن يريد أن يخوض تجربة الحياة من جديد، في الوقت الذي لم يكن راضيًا عن قصائده التي كتبها خلال الجنديّة. بدأ "حسن" تجربته الشّعريّة الأولى الطويلة "أزل النّار في أبد النّور"، ونشر بعض قصائدها في مجلّة "الكاتب"، ومنها التقط عليّ قنديل قصيدة "ربّة البوح والصّمت" ليكتب لها قراءة نقديّة أدهشت "حسن" لدى سماعها في ندوة جمعتهما بصحبة الشّاعر الفلسطينيّ الراحل، عبد الرّؤوف يوسف.
يحتفظ "حسن" بصورة "أبيض وأسود" من هذه الندوة، وفيها يظهر "حسن" مبتسمًا لرفاق الشّعر والحياة الجديدة، بينما سقط "عليّ" في الشّرود، وهو ينظر لعدسة الكاميرا، لعلها نظرته الأخيرة "الموثّقة" للعالم الذي سيهرب بعد أربعة أشهر بالتمام.
حسن طلب وعليّ قنديل "مارس 1975"
سيهدي "حسن" ديوانه الجميل "أزل النّار.."- دار النّديم.. 1988- إلى "أوّل قرّاء هذه القصائد، وأوّل ناقديها: إلى الشّاعر الرّاحل علىّ قنديل في ذكراه المتجدّدة". لكنه لم يعد يتذكّر الآن مكان الصورة بالتّحديد، كما لا يذكر أيضًا من قراءة "عليّ" النقديّة سوى أنها فاجأته. أما ما ذكره "عليّ" في ذلك المساء البعيد، فهو الآتي:
تسود في الشّعر المصريّ الآن- ضمن ما يسود- قصائد عن الحب، لا يغالي المرء إذ يلحقها بقصائد المناسبات التي تقال حسب قياسات مسبقة، فتلفح القارئ، في أحسن الأحوال، بنسمة باردة لا توقد نارًا، ولا يتلاطم فيها موج، ولا أرى لذلك سببًا إلا افتعال تجربة لم تمتزج بلحم الشّاعر، أو استجلابها من ذكريات بعيدة، فتأتي، تحت القسر وغبار الطريق البعيد، هامدة، لا تغيّر في الشّاعر ذاته قليلا، فما بالك بخوض التجربة مع القراء.
وفي مقابل هذه الظاهرة، نتحاور الآن مع قصيدة حب لشاعر شاب، أثارت فينا ولعًا بالاحتراق وحرقة للمغامرة، فلم تمر في النهاية كنسمة باردة، وإنما انطلقت بنا من ساحتها إلى رحلة عبر المجاهيل تطول، وطالما كانت القصيدة جسدًا حيًّا، فإنها تفرض علينا منهجها: تشريحًا وكيمياءً، كوسيلتين للمحاورة يستحيل عزل إحداهما عن الأخرى.
خلص "عليّ" إلى إن التجربة في القصيدة هي المعاناة ذاتها، وبذا تنزرع توًّا في تراب الشّعر الحديث، كما رأى في لغتها ممارسة راقية لتفجير مناجم اللّفظ، وجهد في تكوين أبجديّة خاصة يمتزج فيها البيان الصوفيّ الإسلاميّ بالقياسات المنطقيّة بالمصطلح الفلسفيّ الذي يغتسل في نهر الشّعر فيكتسب بذلك نبضًا حياتيًّا جماليًّا، ويكسب الشّعر عمقًا صافيًا للتأمل وفسحة للعقل. وحيّا "عليّ" التوهّج الكبير في الكثير من الصور التي تشير إلى حساسية شعريّة راقية. وفي ختام القراءة: "إن كان لي في النهاية كلمة، فهي أن القصيدة ما زالت فيها مناطق كثيرة تثير الحوار، وأنها عمل مثمر أفتخر به، ومصباح جديد يضيء ركنًا في ظلمة الإبداع المصريّ الذي تناهى على أيدي الشّعراء الرسميّين إلى جلافة في الإحساس وزيف في العاطفة".
إن الثورة على السّياق الرسميّ للشعر، كما هو واضح، هي الشاغل الأساس لـ"عليّ قنديل" في هذه المرحلة. إنه يؤدي حتى الآن جميع الأدوار ببراعة: الثّائر والمبشّر والظّهر النقديّ والنبيّ الجديد، ولا يتوقف أبدًا عن الكتابة: نقدًا وشعرًا وتأملات في الثّقافة:
"يمر الإبداع المصريّ الآن بلحظة أزمة من شأنها أن يرتبك محلّلوها ويتخبطون في شتى الأسباب والعلل. لعل السرّ في فقدان الشّاعر فعاليته الحضاريّة، وإخفاقه في دفع دائرة التفاعل بينه وبين مجمل الثّقافة العربيّة الناهضة من ناحية. ومن ناحية أخرى بين هذين وبين جوهر الثّقافة الإنسانيّة، وصولاً لتحقق استمراريّة التجدّد والنموّ في قلب أو في موازاة استمراريّة صعود الحدث التاريخيّ الكونيّ.
لقد أصبح الموضوع قبل القصيدة، الحدث الخارجيّ قبل الحدث الشّعريّ، القضيّة قبل التجربة، ويمكن أن نفسّر هذا الكلام بسببين:
1- الكتابة من داخل مفاهيم نظريّة عامة اقتضتها ظروف سياسيّة مختلفة، وأراد لها السّاسة أن تكون هي الشهادة الوحيدة لميلاد أيّ شاعر، وبها أرادوا أن يرتفع شعراء إلى أقصى المجد والضّوء، وأن ينخفض بل ينعزل آخرون في درك الانحراف والعماء.