الحلقه الخامسه: ورده الهدوء والضجيج
كيف انطمر عليّ قنديل وغاب تحت ركام الحوادث في أقصى رفوف الذّاكرة؟ فقدته عندما تصوَّرت أنني عرفته معرفة كافية، لم يعد شاغلاً كما كان، ولو مؤقّتًا.
- هل تعرف عليّ قنديل؟
- طبعًا.
وسريعًا ما يعود ثانية إلى القاع، ليلتحق بشلّة المجانين التي شكّلها هو وهاملت ونيتشه.
فما معنى أن يموت الشّاعر مبكّرًا؟
الشابيّ، التيجانيّ يوسف بشير، صالح الشرنوبيّ، بوشكين، ماياكوفسكي، ليرمنتوف، يسنين، لوتريامون، رامبو، ميجيل أرناديث، طرفة، امرؤ القيس، لوركا، عبد المعطي الهمشريّ، رياض الصّالح الحسين. هؤلاء الذين اختزلوا الحياة، بما فيها وجودهم النابض نفسه، في صورةٍ مجرّدة: إشراقاتٍ وأغانيَ، كيف لا ينظر إليهم العالم بمزيد من الإعجاب؟ كيف لا يضعهم في مصاف الأنبياء الصّغار، وسط عالم كامل من النّبوءات؟ كيف لا تصبح الكلمات، التي لا أحد يعرف تحت أيّة لعنةٍ دوّنوها، رقىً سحريةً لأجيال من الشّعراء يحاولون اكتشاف الزّمن والذّوات؟ إنهم ملهمون بلا شكّ، ودفاترهم القليلة، كيف لا ترقى إلى درجة المعجزات، وهي الانصهار الأقصى بين الفعل والكتابة؟
إن روحًا صغيرة عبقريّة تدرك عبقريّتها، ما إن تكتشف محورها في الوجود، وتعي أبعاد عالمها وخرائط الصّراع في زمانها، تلك الرّوح التي رأت، وصار عليها أن تطبع قدمها بقوّة في جسد الحضارة، وتدفع صراع الأمم دائمًا إلى الأبعد، هي الرّوح الوحيدة القادرة على النبوءة. إن هذا العالم غارق في الفساد، لا أمل أبدًا في إصلاحه، أما الولادة الجديدة فلن تأتي إلا على حساب موتها نفسه.
يقول هنري ميللر: "ما نفع الشّاعر إن لم يصل إلى رؤيا جديدة للحياة؟ إن لم يكن مستعدًّا للتضحية بحياته شاهدًا على حقيقة رؤياه وبهائها؟ الطريقة السائدة اليوم هي الحديث عن هذه الكائنات الشيطانيّة، هؤلاء الرؤيويّون، باعتبارهم رومانتيكيّين، والتأكيد على ذاتيّتهم، والنظر إليهم كانقطاعات وفجوات في نهر الموروث العظيم، وكأنهم مجانين يدورون في دوّامة الذّات، لا شيء يجافي الحقّ أكثر من هذا الكلام، فهؤلاء المجدّدون، على وجه التّحديد، هم الذين يشكّلون السّلسلة العظيمة للأدب الخلّاق، على المرء أن يبدأ، حقَا، عند الآفاق التي تلاشوا فيها".. "رامبو وزمن القتلة".
الانخطاف المبكر هو ما يجعلنا نقف مشدوهين، كأننا ندرك، للمرّة الأولى، قدسيّة البشر والحياة التي تضيع وتغرق في التّفاهة دون أن نحس. لقد كان "رامبو" بشريًّا لكنّه، دون شك، كان أكثر البشر قدسيّة في زمانه. و"عليّ" كان مقدّسًا بمعنى من المعاني. ربما انتهى مغامرًا مثل سلفه، أو حتى دون جوانًا كبيرًا لمن سيقعن في أسر عينيه البريئتين وثقافته الواسعة وموهبته، وربما صار جرحًا كبيرًا يليق بشاعر عارم ينتظر دون لهفة نهاية الشوط.
عاش "عليّ" ميّتًا على الدوام، وهو ما أدركه الآخرون فيما بعد. بعد فوات الوقت والأنفاس اللّاهثة والقدرة على المغامرة. في حياته كان بالنّسبة لكلّ واحد منهم على حدة، المادّة الأوليّة للحياة، حقل البراءة دائم الاخضرار، لا أحد يستحضره إلا مجرّدًا، فكرةً منزّهةً عن اللّحم والدم، عن الخطايا السّبع المهلكات. أما هو، فقد كان يعي موته منذ البداية، ويعرف أنه سيدرك مكانته الحقيقيّة، عندما ينتهي ببساطة كخاطرة في ضمير العالم.
كلّ الأوراق التي كتبها في صباه، كلّ قصائده من البداية للنّهاية، دليل على النبوءة: "أطفئ الشّمعة قمْ"، ألم يذب "علىّ" فجأة كلهبٍ صغير في الهواء؟ ثم إنه لن يُبعث في العالم الآخر، لقد ذهب زمان القداسة، ونصاعة الفكر والفنّ، والقدرة على الفهم العميق للحياة: "أغني لمن، والأغاني قاحلةٌ، والكلام معادٌ، وما عاد سرٌ خبيئًا، وما عاد آلهةٌ تستجيب لقيثارتي". سيبعث هنا على هذه الأرض بالذّات، في هذه الدنيا من التائهين والغرباء: "لا يناديك باسمك غير ليل التائهين وسرير الغرباء". هنا تصير الحياة والموت شيئًا واحدًا. الذّكورة والأنوثة. وهو الذي قرأ سريرة الأيام، كما يقول. وعرف اللّعبة الكبرى، كما يدّعي. ولديه مفاتح الأشياء جميعًا: "لابدّ للمسافر الصّغير أن يستريح في حدائق الأشعّة". "أنا وحدي الذي يخضرّ في الأوحال". "تائهٌ بيتي وبابي في الغروب". "أود أن أعيش قبل أن أموت". "لا يحبّ الموت أحدٌ في هذي المدينة". "عليَّ أن أكون اللّون الثامن في قوس قزح". "أما الأيام فكانت تنحني لأعبر فوقها". "سوف أكون هناك، أرقد عند مجاري العطر ومرتفعات الصّمت وأحضان الأشجار".
لكن، هل كان يرى بالفعل شكل نهايته، ويتصوّر الأحداث قبل وقوعها؟: "فما نلناه سجنًا معدِنيًّا ووريقاتٍ وباب". كيف إذن سقط في الخديعة التي قرأ خيوطها جميعًا، وغاب في المؤامرة الكبرى التي صاغها بنفسه؟
إنه يتكلم كنبيّ صغير يعرف سيمياء الحروف والعناصر، ويفهم الخليّة الحيّة كما يفهم أبديّة الرّوح، إن فلك الكتابة كلّه يدور في المعجم المقدّس: الظّلام المقدّس، النّور المقدّس، السّفر المقدّس، الصّباح الذي حتمًا سيأتي، الصّباح الغريب كليةً، القريب للغاية، الصّباح الذي يشبه إيقاع القصيدة الواضح، وجرسها الرنّان بلا انتهاء، وردة اليقين القادمة من زمن المتصوّفين الأوائل، عابرةً مستنقعات الجلافة وشرذمات القراصنة، الوردة التي ترقد كأسطورة في خلاياه.
إن هذا العالم المحزن، الذي يقوّض إيماننا بالضّوء، هو الذي يقود خطانا الأولى الواجفة نحو الشّعر، إنها شهوة الاخضرار والتفتّح. النزوع إلى الحريّة الأقصى: حريّة الفعل وحريّة الكتابة. الاستقلال الكامل عن كلّ موروث: بشريّ أو عقائديّ. الوعي الحقيقيّ بمكامن القوّة في النّفس، ومكامن الضّعف. الانحياز الكامل للرّوح، على حساب الغرائز التي تقبل العيش في الظّلام. ربما إلغاؤها وتدميرها لتصير روحيّة هي الأخرى.
إن الهدف النهائيّ يكون أكثر وضوحًا، بالقطع، عندما نبدأ الطريق. الهدف الذي يملأ الحواس، ويجعل الأفق مكشوفًا باتّساع، واضحًا كأبديّةٍ لا تخصّ أحدًا سوانا. وخلال الرّحلة تتشابه علينا الإشارات وتضيع الطريق ونتوه عن الهدف. هذا ما يحدث لنا في أغلب الأحيان. أما "عليّ" فلا. لقد كان رائيًا كبيرًا. كتب وهو في الخامسة عشرة في مذكّراته: "سوف أخلّف بعد موتي حصدًا هائلاً من الأفكار غير المرتّبة، والتي يدخل بعضها في مجال الهستيريّة، سأخلّف أيضًا جبلاً من التشاؤم".
البطاقة الشخصية
من أي بئرٍ معتمة استقى "عليّ" هذا اليأس، وهذه القتامة في النظر إلى الحياة "عبر منظار أسود"- بتعبيره؟ إنه يعرف أنه سيموت في نهاية المطاف- ربما ليس بهذه السرعة- لكنه لن يجد أحدًا يبكيه، والمؤكّد أن "ألف سلام سيحلّ على الأرض" بعد ذلك.
لكن، إذا لم يترك المرء وراءه سوى وريقات مبعثرة، كما يقول، فأي معركة كان يشكّلها وجوده في هذه الحياة؟
ما معنى الحياة، حياة الشّاعر؟
وما معنى وجوده، ومعنى موته؟
ما رسالته؟
ما رؤياه؟
هذا الوقت المبكّر في حياة أيّ شاعر، هو وقت الأسئلة الكبرى، وقت انهمار الرؤى ونصاعة الحلم الذي ينبع من فخّ التشاؤم بالذّات. إن مساحة الحزن شاملة، والسّعادة في أضيق الحدود، الظّلام هائلٌ دون شكّ، ذلك ما نراه في نفوسنا على الأقل، ومن خلاله نبدأ التّحديق في العالم، فلا نجد سوى العتمة الشّاملة المؤكّدة، إن بحرًا من الدّموع هائجًا يغرقنا في لججه السوداء.
ما العمل؟
عند هذه النقطة، وعلى أعتاب هذا السّؤال العصيّ، يبدأ الطريق نحو الشّعر.