ننشر مقالة للشاعر والناقد شعبان يوسف عن بدايات الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور (1931 – 1981) والذى ترك وراءه إرثا كبيرا ومهما في الثقافة العربية،
مرحلة شائكة:
استيقظ المصريون فى أواخر فبراير عام 1954 على استقالة مدويّة من رئيس الجمهورية اللواء أركان حرب محمد نجيب، وبالتحديد فى 25 فبراير، بعد أن تسرب - عفوا أو قصدا - الخبر إلى الصحف بالفعل، ونشرته بشكل واسع، مما أدى إلى ارتباكات شديدة ومفاجئة على كافة المستويات الشعبية والعسكرية والسياسية، وتحركت مياه كثيرة كانت كامنة فى النهر، مياه من كل الاتجاهات، وقفزت مرة أخرى قوى سياسية قديمة فى المشهد السياسى لتفرض نفسها فى فرصة شبه أخيرة، تلك القوى الطامحة أو الطامعة فى وأد الثورة، أو تحييدها، أو سرقتها، أو إفسادها، مثلما كانت تسعى "الإخوان المسلمين"، وكانوا يعتبرون أنفسهم شركاء أساسيين فى إنجاز الثورة، وبالتالى ينظرون إلى أنفسهم بأنهم الأحق بقيادة البلاد، وخطف السلطة بكافة الطرق التى يدبرونها بليل أو نهار، واستقطاب عناصر من كل اتجاه حتى يحصلوا على غرضهم الأساسى، وهو الاستيلاء على السلطة بكل مقدراتها، وكانوا يرون بأن هذه الفرصة لا ولن تعوّض مرة أخرى فى المستقبل القريب أو البعيد، لذا تحركوا بشكل واسع لتحريك الأمور جميعها وفى كل اتجاه لصالحهم.
كذلك القوى القديمة الممثلة فى حزب الوفد، ذلك الحزب الشعبى الجماهيرى، حزب سعد زغلول وثورة 1919، والذى كان له نضالات واسعة على مدى ثلاثة عقود، قبل أن تفسد قياداته وتنتهى صلاحياتها النضالية والسياسية بشكل عام، وتفشل فى إدارة البلاد بحكمة وحزم وحسم كما كان قديما، وكانت تلك القيادات وفسادها من بين الأسباب التى قامت من أجلها الثورة، كذلك كان الشيوعيون الذين نهضوا بشكل كبير فى عقد الأربعينات، ووضعوا خطوطا استراتيجية عريضة فى برامجهم على المستوى الاجتماعى والوطنى والسياسى والديمقراطى، استفادت منها القيادات الجديدة لثورة 23 يوليو، خاصة فى المجال الاجتماعى، كل هؤلاء الذين أزيحوا بشكل أو بآخر من التمثيل السياسى فى السلطة، حانت لهم الفرصة لتغيير الدفة ناحيتهم، وتحريك المركب فى الاتجاه الذى يخدم أغراضهم، لكن الأزمة الأساسية التى تختفى تحتها أزمات أخرى، أن كل هؤلاء قوى سياسية ليست على وفاق على هدف واحد، أو مختلفة فحسب، بل كلها كانت قوى متناقضة ومتعارضة تماما على المستوى الاجتماعى والسياسى والأيديولوجى، لذا كانت قوى متناحرة ومتصارعة على السلطة، وبالتالى لن تستطيع أن تجمعهم كلمة سواء، أو مظلة واحدة يستطيعون الوقوف تحتها لأى فترة من الزمن، حتى ليوم واحد، لذا كانت إمكانية نجاح الانقضاض ضئيلة، وليست معدومة، ودبر هؤلاء الذين خرجوا من جنّة السلطة مجموعة تظاهرات حاشدة فى مدينة القاهرة، ورفعوا شعارات ساخنة من طراز "محمد نجيب أو الثورة، إلى السجن ياجمال، إلى السجن ياصلاح"، والمقصود جمال عبد الناصر وصلاح سالم، ويكتب الدكتور عبد العظيم رمضان فى كتابه "عبد الناصر وأزمة مارس 1954 "
"وفى نفس الوقت كان ضباط الإسكندرية يدلون بأصواتهم فى صف اللواء نجيب، فلم يكد يذاع بيان مجلس الثورة بقبول استقالة نجيب، حتى أبدى ضباط المنطقة الشمالية اعتراضهم على ذلك فى اجتماع عقده معهم حسن ابراهيم فى نادى الضباط موفدا من مجلس إدارة الثورة.."، وبدون استطراد فى سرد الأحداث، تعقدت وتشابكت الأمور للغاية، فتم الرجوع والعزوف عن قبول الاستقالة، بعد أن ذهب ضابطان من الضباط الأحرار، وألقوا القبض على اللواء محمد نجيب بالفعل، كما أنهما سجنوا الحرس الخاص به، وجردوه من كافة الأسلحة، وعندما طلب محمد نجيب التعامل مع التليفون، رفض كمال رفعت أحد الضابطين اللذين قبضا على نجيب.
وعندما تفاقمت الحشود والتظاهرات التى تطالب بعودة محمد نجيب بشكل لا يمكن تغافله أو مواجهته، أو فتح النيران أمامه، بالإضافة إلى تذمر سلاح الفرسان الموالى لخالد محيى الدين أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة البارزين، والمنحاز لمحمد نجيب، كما أن ضباط المنطقة الشمالية أضافوا عبئا إضافيا للأزمة، عند ذلك أبلغ صلاح سالم - وزير الإرشاد القومى وأحد صقور مجلس قيادة الثورة - عبد الناصر بخطورة الموقف، اتفقا على الخضوع للأزمة، والتراجع التكتيكى أمامها، حتى لا تذهب الثورة كلها فى خبر كان، وفى تمام السادسة من مساء يوم 27 فبراير 1954 صدر قرار بعودة محمد نجيب مرة أخرى رئيسا للبلاد، ونشرت الصحف فى الصباح "عودة اللواء محمد نجيب إلى رئاسة الجمهورية البرلمانية"، كما ألحق الخبر برد اللواء محمد نجيب الذى كتب فيه "لقد قبلت رئاسة الجمهورية البرلمانية".
حدث هذا فى أربعة أيام فقط، من 23 إلى 27، وتتحدث الأدبيات التى دوّنت تاريخ تلك الأيام عن كمية الأحداث الجمة التى جرت فى تلك الأيام، ولا مجال لذكرها حيث تم سردها على صفحات كتب تاريخية كثيرة، دوّنها شهود عيان وباحثون ومشاركون فى الأحداث، والخلاصة أن محمد نجيب إلى السلطة مرة أخرى، ولكن ما وقر فى القلب قد وقر واستقر، وبعد ظهور أصابع الغدر من أطراف كثيرة، بما فيهم محمد نجيب نفسه، لم يعد الأمر كما كان على الإطلاق، وكان مجلس قيادة الثورة كله على قلق كأن الانقلاب تحته، مع تحريف لفقرة المتنبى الشعرية: "على قلق كأن الريح تحتى، الكل حذر، والكل خائف، والكل لديه خطط جامواجهة وبديلة وجاهزة للتفيذ، والكل منتظر أحداث كبرى وتغييرات وتبديلات، فما حدث كان مقدمة الجولة، تلك المقدمة التى تأخرت كثيرا منذ قيام الثورة، فمن المعروف أن اللواء محمد نجيب لم يكن تاريخيا من الضباط الأحرار، ولكنه اختير فى شهور ما قبل يوليو ، وبعد معركة انتخابات نادى الضباط لكى يكون القائد العام، ورئيس مجلس قيادة الثورة، وتم اختياره وفق معايير معينة، تلك المعايير التى تتعلق بالنزاهة والشرف والشجاعة والوطنية، وعند عرض الأمر عليه، وافق على الفور حاملا رأسه على كفه، وقاد بشجاعة المرحلة الأولى من الثورة، ولم يتردد اسم فى الشهور الثلاثة الأولى سوى اسمه، وكان أعضاء مجلس قيادة الثورة ينظرون إليه باعتباره الأب الروحى لهم جميعا فى مجلس قيادة الثورة، الذى استلم زمام الأمور فى قيادة البلاد، وظل محمد نجيب هو الوحيد تقريبا حديث الصحف والمجلات والإعلام على المستويات المصرية والعربية والعالمية عموما، هذا الأمر الذى أدى إلى تكريس حالة زعامة مهيبة، تنطوى على ملابسات وشكوك والتباسات حقيقية، ومن علامات تكريس الزعامة أنه كان رئيسا لمجلس قيادة الثورة، والقائد العام للقوات المسلحة، ثم تم توليه رئاسة الوزراء منذ سبتمبر 1952، ثم رئاسة الجمهورية بعد إعلان سقوط الملكية فى 18 يونيو 1953، وأدت عمليات تكريس الزعامة بأنه كان يطلب من مجلس قيادة الثورة المزيد من السلطات له، ولكن المجلس كان متعنتا دائما، ولم يوافق على المزيد من السلطات بأى شكل من الأشكال، وكانت تلك المطالبات المتكررة من نجيب بمزيد من السلطات مثار خلافات حادة ودائمة بينه وبين المجلس، وكان المجلس حاسما وبشكل قاطع فى رفض تلك المطالبات، مما أدى إلى اعتكاف نجيب لأكثر من مرة، وكان اعتكافه الأول فى أكتوبر 1953 من أجل الضغط على المجلس لقبول مطالباته، ولكنه قوبل بالرفض الحاد أيضا، ولكى لا يبدو أن خلافات ما _حسب ماورد فى كتاب فصول من ثورة يوليو للدكتور وحيد رأفت_ أصدر مجلس قيادة الثورة يوم الثلاثاء 6 أكتوبر 1953 نشرة تقول: "شعر السيد رئيس الجمهورية بعد ظهر الأحد 4 أكتوبر بانحراف فى صحته مما استدعى توقيع الكشف الطبى عليه، ووجد أن سيادته يشكو من إجهاد عام استلزم الراحة التامة بالفراش لبضعة أيام، وصحة سيادته فى تحسن مطرد والحمد لله".
وبدون سرد ما هو معروف ومسرود من قبل، أدت تلك المشاحنات بين نجيب والمجلس، إلى الدرجة التى دفعت المجلس لكى يجتمع دونه، واختفاء مواعيد وتفاصيل الاجتماعات، وهذا ما اكتشفه نجيب قبيل إعلان استقالته من كل مناصبه وسلطاته، وبالتحديد فى يوم 23 فبراير 1952، وتم قبول هذه الاستقالة، وتسريبها يوم 25 فبراير، وقيام المظاهرات والاحتجاجات التى ذكرنا سلفا من المناوئين والخصوم والأعداء، ثم الرضوخ لعودة نجيب وإقناعه بالعدول عن الاستقالة، وممارسة سلطاته مرة أخرى من خلال مناصبه المتعددة، وظهور جمال عبد الناصر فى صور مع محمد نجيب وهما يضحكان، وهذا لإعلان أن لا شئ يحدث فى قمة السلطة، وكأنك يادار ما دخلك شر، كما يقول المثل الشائع، وهكذا حسمت الجولة الأولى لصالح محمد نجيب وأنصاره.
كل هذه الأحداث كانت مايشبه الغليان الذى أدى إلى انفجار 6 مارس 1954، حيث أعلن مجلس قيادة الثورة، أن ثمة قرارات على درجة كبيرة من الأهمية سوف تعلن، وحدث بالفعل فى الساعة الواحدة والربع من صباح ذلك اليوم أن انتظر الصحفيون ومراسلو الصحف ووكالات الأنباء المصرية بيانا سوف يصدر عن مجلس قيادة الثورة على قدر كبير من الأهمية والخطورة والحسم، وبالفعل خرج جمال عبد الناصر ليعلن ذلك البيان، والذى قرر فيه عقد جمعية تأسيسية منتخبة بطريق الاقتراع العام المباشر، على أن تجتمع خلال شهر يوليو 1954 وتتكون لها مهام معينة وواضحة المعالم، ومن أهم تلك المهام، مناقشة مشروع الدستور، والقيام بمهمة البرلمان إلى الوقت الذى يتم فيه عقد البرلمان الجديد وفقا لأحكام الدستور الذى ستقره الجمعية التأسيسية، ولكى تجرى الانتخابات فى جو تسوده الحرية التامة، فإنه تقرر إلغاء الأحكام العرفية السائدة، وإلغاء الرقابة على الصحف والنشر اعتبارا من نفس اليوم، فيما عدا الشئون الخاصة بالدفاع الوطنى، ولم يفوّت الصحفيون الفرصة لكى يسألوا جمال عبد الناصر الذى أخذ على عاتقه قيادة البلاد بشكل فعلى وحاسم منذ تلك اللحظة التى كانت تهدد كل ما أنجزوه بالزوال، كان السؤال حول الأحزاب، وكان رده: "إن تنظيم الأحزاب سيكون متوقفا على الدستور الجديد الذى ستبت فيه الجمعية التأسيسية، وإن الشعب نفسه هو الذى سينتخب الجمعية"، وحول سؤال آخر عن المعتقلين السياسيين، جاء رده: "سوف يتم الإفراج عمن لا تثبت ضده تهمة من المعتقلين، وإن جميع القوانين التى صدرت فى غيبة البرلمان سوف تعرض على الجمعية التأسيسية، كما ورد فى كتاب "عشرون يوما هزّت مصر" للأستاذ كرم شلبى، وكان السؤال الأهم فى ذلك السياق هو عن وضع مجلس قيادة الثورة بعد انتخاب البرلمان الجديد، فكان رد جمال عبد الناصر "لقد أصبحنا رجال سياسة، ويجب أن يبعد الجيش عن السياسة، ولذلك فإننا سنتنحى عن مراكزنا فى الجيش"، وهكذا دار الحوار الأخطر فى لحظة محورية من تاريخ ثورة وسلطة يوليو، وبدأ بعدها حوار صحفى وسياسى ومجتمعى، شاركت فيه أقلام وعقول ومؤسسات ومفكرون من كافة التيارات والاتجاهات، وذلك حتى 27 مارس، وكانت قد احتدمت مرة أخرى الخلافات بين نجيب ومجلس قيادة الثورة وجمال عبد الناصر شخصيا، وبهذا أسدل الستار تماما على كل ماتم التصريح به، وكان المجلس بالقيادة الفعلية لجمال عبد الناصر قد اكتسب خبرة عميقة من الأحداث السابقة، إذ تمت إزاحة الرئيس محمد نجيب عن الرئاسة بالتدريج دون إراقة قطرة دم واحدة، لكى يحل محله جمال عبد الناصر رئيسا للبلد، وزعيما فعليا لثورة يوليو، مع العلم أن المعركة التى دارت بين محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة، لم تكن معركة ذات طابع فردى، ولكنها كانت ذات طابع سياسى، ولها أعوان على الجانبين، فكان محمد نجيب يتحرك بدعم من كافة القوى القديمة والرجعية، فى مواجهة مجلس قيادة الثورة الذى يمثّل التغيير الجذرى فى البلاد.